” أنا اقرأ … إذن أنا موجود “
إن الإنسان وهو يحمل كتابا، ويقلب صفحاته الصفحة تلو الصفحة، وينتقل بين فقراته الفقرة تلو الفقرة، ويتفحص ما فيه من أفكار الفكرة تلو الفكرة، يكون في حالة وعي كلي بذاته، والوعي بالذات، هو في المقام الأول وعي بوجود هذه الذات، أي أن القراءة و بالإضافة إلى أشياء أخرى كالحركة بالإرادة والتفكير هي دليل على الوجود، إلا أن مقام هذا الدليل ودرجة حجيته أعلى بكثير من الأدلة الأخرى، ذلك أن القراءة ترتبط بنوع خاص من الوجود، فكل الكائنات الحية التي تتحرك بالإرادة موجودة بناءا على دليل الحركة بالإرادة، وهذا الوجود عام ( الوجود الكوني )، ولكنها غير موجودة بناءا على دليل التفكير، والذي هو دليل فقط على وجود الكائنات التي تفكر ( الإنسان )، ولكن وبناءا على دليل القراءة فليس كل من يفكر ( بمعناها العام وليس الخاص ) موجود، فالوجود محصور فقط في القراءة، أي أن من يقرأ هو فقط من يمكن أن نقول عنه أنه موجود، أما من كان غير كذلك فلا وجود له.
وبما أن القراءة هي ما يجعل الإنسان واعيا بذاته، أو كما بينا أعلاه بوجوده، فإن هذا الوعي بالذات يختلف باختلاف كم ونوع هذه القراءة، فمتى كان الإنسان ذو معدل أعلى في القراءة من حيث الكم دون النوع كان وعيه بذاته أقرب للكمال، أما إن كان ذو معدل أعلى فيها من حيث النوع دون الكم فوعيه بذاته يكون أكثر قربا من الكمال، أما إن هو تمكن من التوفيق والجمع بين الكم والنوع في قراءاته يكون قد استطاع أن يحصل الكمال في وعيه بذاته.
وكما أن الوعي بالذات يختلف باختلاف كم ونوع والقراءة، فإن كم ونوع والقراءة أيضا يختلفان باختلاف طريقة القراءة، فالإنسان ومتى كان يتمتع بالقدرة على التساؤل حول ما يقرأ وبالتالي القدرة على النقد والتحليل والتفكيك، يكون أكثر الناس وعيا بما يقرأ وبالتالي أكثرهم وعيا بذاته، أي أنه وبالإضافة إلى تحصيله الكمال في وعيه بذاته يكون قد تمكن من تحصيل أعلى وأشرف المراتب في هذا الوعي، و أما إن كانت هذه القدرات ضحلة أو منعدمة كان الوعي بما يقرأ هو الآخر ضحلا ومنعدما وبالتالي الوعي بالذات ضحلا ومنعدما، أي أن الكمال بالوعي بالذات الذي كان من المفروض أن يكون محصلا يصبح غير كذلك.
والوعي بالذات ليس وعي بوجود هذا الذات وفقط، إنما هو وعي بالآخر أيضا، فالإنسان وبمجرد أن يحصل وعيه بذاته أي وجوده فإنه يلتفت مباشرة إلى ما يحيط به باحثا عن ذوات أخرى تشاركه هذا الوجود. وكما أن الوعي بالذات يكون كاملا وكليا في حالة ارتباط وصف القارئية بهذه الذات، فإن الوعي بالذوات الأخرى يكون هو الآخر كاملا وكليا إن هو ارتبط بهذا الوصف، أي أن الانسان إن هو حصل الكمال في الوعي بذاته، وقد بينا فيما سبق كيف يكون ذلك، حصل الكمال في الوعي بالآخر، وإن هو لم يحصل هذا الكمال أو حصلها ناقصا، كان الوعي بالآخر مثل كذلك أي منعدما أو ناقصا.
كمحصلة لهذا الكلام نقول أن القراءة ليست كما هو سائد دليلا على كمال العقل وسعة العلم رأسا، أو دليلا على رقي وتثقف أو تقدم وتحضر ابتداء، إنما هي دليل على وجود الإنسان، بل هي أخص الأدلة وأشرفها على هذا الوجود، فمتى كانت القراءة كان الكلام على الوجود الإنساني ممكنا، ومتى انعدمت انعدم معها الكلام على هذا الوجود لزوما،وأن القراءة وبناءا على كمها ونوعها وطريقتها هي الوحيدة التي يمكن ان تجعل الإنسان يحصل الكمال في وجوده أي في وعيه بذاته.ومنه تحصيل الوعي بالأخر أي من يشاركه الوجود.
فئة:
كتابات طلابية